تحلّ الاحتفالات بعيد الفصح هذا العام في الأرض المقدّسة وسط مشهد معقّد تسوده مشاعر متضاربة تتأرجح بين الحزن والرجاء، في ظلّ استمرار الحرب في غزّة، والتصعيد الأمنيّ في الضفّة الغربيّة والقدس.
وسيُحرَم مسيحيّو غزّة هذا العام تمامًا من الوصول إلى القدس والمشاركة في الطقوس، نتيجة الحصار وإغلاق المعابر، فيما يواجه مؤمنون كثُر في الضفّة الغربيّة صعوبات بالغة في الحصول على تصاريح دخول من السلطات الإسرائيليّة، وسط تشديد أمنيّ خانق.
عيد الفصح هو فعل إيمانٍ وصمود على الرغم من الحرب والقيود. مصدر الصورة: حراسة الأراضي المقدّسة
إصرار كنسيّ
وعلى الرغم من هذه التحدّيات كلّها، تصرّ الكنائس في القدس وسائر أنحاء فلسطين على إقامة الطقوس الدينيّة المرتبطة بالأسبوع المقدّس، حتّى إن كانت بحضور محدود وبظروف استثنائيّة. عيد الفصح بالنسبة إلى المسيحيّين هنا ليس مجرّد تقليد دينيّ، بل هو فعل إيمان وصمود، وصرخة حياة في وجه الموت والدمار.
في هذا السياق، أعلنت البطريركيّة اللاتينيّة في القدس برنامج احتفالات الأسبوع المقدّس لهذا العام، والتي يترأّسها الكاردينال بييرباتيستا بيتسابالا، بطريرك القدس للاتين، في كنيسة القيامة. وتبدأ هذه الاحتفالات في 13 نيسان/أبريل بأحد الشعانين، وتُختتم في 20 من الشهر نفسه بالدخول الاحتفاليّ إلى كنيسة القيامة، ويلي ذلك قدّاس عيد الفصح والدورة التقليديّة داخل الكنيسة.
عيد الفصح هو فعل إيمانٍ وصمود على الرغم من الحرب والقيود. مصدر الصورة: البطريركيّة اللاتينيّة-القدس
غياب الحجّاج وهجرة مقلقة
وعلى الرغم من الظروف الصعبة التي تمرّ بها الأرض المقدّسة، تُصرّ الكنائس في القدس وسائر أنحاء فلسطين على إحياء طقوس الأسبوع المقدّس، حتّى لو بأبسط أشكالها. بالنسبة إلى كثيرين، لا يُختزل الفصح بالطقوس والاحتفالات فحسب، فهو عيدٌ يُعبّر بعمق أيضًا عن التمسّك بالإيمان والانتماء إلى الأرض، ويُمثّل رسالة رجاء تتحدّى الحزن والمعاناة اليوميّة.
لكنّ ما يزيد ثقل المشهد الحاليّ، هو استمرار غياب الحجّاج والسيّاح للعام الثاني تواليًا، ما ترك أثرًا موجعًا لا يقتصر على الجانب الروحيّ، بل طال أيضًا حياة مئات العائلات المسيحيّة التي تعتمد مباشرةً على السياحة الدينيّة بوصفها مصدرًا أساسيًّا للرزق.
عيد الفصح هو فعل إيمانٍ وصمود على الرغم من الحرب والقيود. مصدر الصورة: حراسة الأراضي المقدّسة
في مدن مثل بيت لحم والقدس، تكاد حركة الأسواق تتوقّف، وورش نحت خشب الزيتون التي كانت تملأ رفوفها بالهدايا التذكاريّة للحجّاج تعاني كسادًا غير مسبوق. كذلك، تراجعت الحركة في الفنادق والمطاعم والمتاجر، ما أدّى إلى خسارة كثيرين وظائفهم، وترَكَ آخرين في مواجهة ضيق اقتصاديّ حادّ.
وقد دفع هذا الوضع الصعب عددًا متزايدًا من العائلات المسيحيّة إلى التفكير في الهجرة، بحثًا عن لقمة العيش والاستقرار، وهو ما يثير مخاوف حقيقيّة على مستقبل الحضور المسيحيّ في الأرض التي انطلقت منها رسالة الإنجيل.
عيد الفصح هو فعل إيمانٍ وصمود على الرغم من الحرب والقيود. مصدر الصورة: البطريركيّة اللاتينيّة-القدس
لكنّ نبرة الرجاء لم تغب عن خطابات القادة الكنسيّين. فقد وجّه بيتسابالا دعوة مؤثّرة للحجّاج إلى عدم التردّد في المجيء، مؤكّدًا: «حضوركم هو حضور سلام... ونحن بحاجة إلى السلام». كما عبّر حارس الأرض المقدّسة الأب فرانشيسكو باتون عن المعنى العميق لزيارة هذه الأماكن، واصفًا إيّاها بأنّها «عمل إيمان ودعم ملموس للمسيحيّين المحلّيين» المتمسّكين بجذورهم في هذه الأرض على الرغم من كلّ شيء.
فيما تشهد المدينة المقدّسة توتّرًا دينيًّا متصاعدًا، أصدر مركز روسينغ للتعليم والحوار ومركز توثيق الحرّية الدينيّة تقريرَين جديدين يُظهران ارتفاعًا غير مسبوق في الهجمات والمضايقات ضدّ المسيحيّين في إسرائيل والقدس الشرقيّة، بلغت 111 حادثة موثّقة في عام 2024 وحده.
وجَّه نائب حارس الأراضي المقدّسة الأب إبراهيم فلتس الفرنسيسكانيّ من قلب القدس نداءً مؤثّرًا ومفعمًا بالرجاء، لكنّه لم يَخلُ من الألم، داعيًا العالم المسيحيّ إلى دعم مسيحيّي الأرض المقدّسة الذين يواجهون اليوم تهديداتٍ غير مسبوقة لوجودهم التاريخيّ في مهد الإيمان.